استحوذ التيّار الذي يتبنّى أفكار ابن تيمية (أو ما نُسِبَ الى ابن تيمية) قدراً كبيراً من اهتمام المسلمين بطوائفهم المتعددة، لا سيما و انه يتلبس بلباس العقائد الإسلامية و ادّعاء تشذيبها من الخرافات و الخزعبلات و البدع التي يدّعي هذا التيار وجودها في كل طوائف المسلمبن. و تميّز أتباعه بشدّة اللهجة تجاه خصومهم و تطرّف الحكم على الآخرين ممن لا يؤمن بتوجهاتهم. و أخيراً أصبح هذا التيار خميرة لكل حركة تكفير للمسلمين و كل دعوة للقتل بدعوى “الشرك” و “الإلحاد” و “البدع” و غيرها من اتهامات نسمعها على ألسنة أناس لا نعرف عنهم سوى تمجيدهم لإبن تيمية و لقلقتهم بألفاظ “التوحيد” و “السنّة” و ما يرافقها من مظاهر تستهوي السذّج و ضعاف العقول و من يأخذ دينه عن غير بصيرة و يحسن الظنّ في وقت السوء و الفتن الذي نعيشه.
و يبدو واضحاً أنّ من أبسط ما يستهوي به أتباع هذه الحركات التكفيرية أتباعهم هو تمظهرهم بمظاهر السنة و تكرارهم لألفاظ و نصوص التوحيد، فالتوحيد في الإسلام هو الأصل الأول في العقيدة و هو غاية إرسال الرسل بل و غاية خلق الإنسان. فالبسطاء من الناس تخدعهم الدعوات الى تنقية توحيدهم مما علق به من “شرك” و “إلحاد” و “بدع” و غيرها من أوصاف تَشينُه.
لكن الدعوة الى التوحيد –ظاهراً– اذا أفضت الى التكفير و رفض الإستماع الى رأي الغير و محاربة العقل و التفكير السويّ، ثم استباحة الأعراض و الدماء و الأموال، فلا بد أن يتوقف المسلم –مهما كان مستواه الذهني– و يتساءل عن غرض هؤلاء القوم الذين يدعوننا الى قتل من يختلف عنا في الفكر و العقيدة و المنهج! ألا يخبروننا كيف تسافل توحيدهم من تعظيم لله سبحانه و تنزيهه الى هذا الحضيض من التجرد عن الإنسانية و اتّباع البهيمية و الشيطنة؟ فلو أن الشيطان الرجيم عدو التوحيد أراد أن يحطّم الإيمان بالله سبحانه و توحيده لما وجد أفضل منهم وسيلة و أعواناً و خُدّاماً! فها هم يمزجون صيحات “الله أكبر” بقتلهم الأسرى بأبشع الطرق، و يخلطون كلمة الله بتهجير آلاف المسلمين و أهل الملل الأخرى، و يحطمون الإرث الحضاري و هم يرفعون راية “لا إله الا الله”. فهل نتوقع أحداً يؤمن بالاسلام و يرغب في التوحيد و هو يرى “أهل التوحيد” يرتكبون أمثال هذه الجرائم؟
لكن المسلم بسيط التفكير و المعرفة سيقف متحيّراً في هذه الدعوة التي تُفضي إلى نتائج لا يرتضيها العقل السليم، دون أن يستطيع معرفة الخلل فيها، إذ أنّ الدعوة هي دعوة عبادة الواحد الأحد –سبحانه– و نبذ الشرك و البدع و الخزعبلات، وهي دعوة صالحة في ظاهرها فكيف تحولت إلى نهج متطرف؟ ذلك أنّ تفكيك ألغاز و تأريخ نشوء هذه الدعوة و التحولات التي مرّت بها و طريقة استقطابها عوامّ المسلمين و تحوّلها زاداً للتقاتل الإسلامي–الإسلامي و سلاحاً للتعدّي على أهل الأديان و الإعتقادات الأخرى هو أمر يحتاج الى مَؤونة علمية متميزة و تفكير يعلو على تفكير واضع هذه الأفكار المتطرفة. بل و لا بد أن يعلو على طريقة و منهجية كل المفكرين و العلماء و المراجع السابقين و الحاليين الذين تصدّوا لتحليل هذا التيار المتطرف و إيقاف نخره في جسد العقيدة الإسلامية و المجتمع الإسلامي. و لو كانت المنهجيات و طرق النقاش السابقة ناجعة لما استمر هذا الفكر في الإستفحال و لما بلغت فتنته في التفنن في القتل و الإرهاب هذا المبلغ و لما استمر في كسب الأتباع و التوسع.
أضف الى ذلك أن شدة تغير الأحداث التي يعيشها العالم بأسره من تصارع في الأفكار و التوجهات و التسابق للهيمنة و السيادة و استخدام أية أساليب متاحة للوصول الى الاغراض دون وازع أخلاقي أو انساني، تتطلب تفكيراً مرناً و اطّلاعاً على ما يجري في الواقع اليومي للمسلمين و متابعةً للحركة السياسية المحلية و الاقليمية و العالمية بكل تعقيداتها و الربط بين الأحداث و التوجهات المختلفة للخروج باستقراء و فهم واضح لأسباب نشوء و نمو الدعوات الدينية المتطرفة و كيفية استخدامها ألعوبة بأيدي الأهواء السياسية.
و هذا البحث نتاج آخر لسماحة السيد الصرخي الحسني (دام ظله) في الذبّ عن أصول الدين الحنيف و استنقاذ المسلمين من القتن المتلاطمة التي حوّلت المجتمع الإسلامي الى معسكرات قتل يعيث فيها أصحاب الأهواء و أعداء التوحيد فسادا. و انتهج سماحته في محاضرات هذا البحث طريقته المتميزة في تفكيك العبارات و تبيان الخلل و التناقض و الخطأ في صياغتها نفسها و تطبيقاتها و الاستدلالات التي تضمّنتهاعند ابن تيمية و من ماثله في المنهج و الاستدلال. و في ثنايا البحث يجد المسلم بوضوح آيات القرآن الحكيم و السنة الشريفة تنهاه عن دعوات التوحيد الزائف الكاذب و تدعوه الى الرجوع الى مَعين التوحيد القرآني الذي أوضحته السنة الشريفة و أقوال و أفعال أئمة المسلمين من أهل البيت (عليهم السلام) و نُقول الصحابة الكرام و التابعين و العلماء الربانيين. فتستبين للمسلم طريق عبادة الإله الواحد و الدعوة الحسنى الى التوحيد الخالص من أهواء المتقولين و تدليسات المبطلين و تسويلات الشياطين: