بيان رقم – 77 –
الحركة الإصلاحية بين الإيثار والانتهازية
المرجع الديني السيد الصرخي الحسني (أدام الله بقائكم)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع // باحث اجتماعي
سيدنا العزيز من خلال دراستي وبحثي في تاريخ المؤسَّسة الدينية في العراق وقفْتُ عند عدَّة استفهامات فلم أجد بُدّا إلا [مِن] رفعها إلى سماحتكم وهي: من الواضح لكلّ باحث ومتفقّه أنَّ الحوزة العلمية في بداية القرن العشرين كان منهجها السائد هو منهج قديم (كلاسيكي) وبقيت على هذا الحال لفترة ليست بقصيرة إلى أنْ جاء عصر الصدر الأول والسيد الخميني (قدس سرهما ) وطرحت وأشيعت أدلّة (ولاية الفقيه) وطُبِّقت على أرض الواقع، وحينها تباينت مواقف العلماء في الحوزات العلمية الإسلامية حتى أصبح هناك خطان حوزويان لا ثالث لهما، الأول يرفض فكرة (ولاية الفقيه) ويقتصر على (الولاية الحسبية أي في الخمس والزكاة) وكذلك يستنكر فكرة الدخول في العمل السياسي أي يفصل الدين عن السياسية، وأمّا الخط الآخر فإنَّه يرى أنَّ (ولاية الفقيه) ولاية عامة ويؤكّد في مبادئه على عدم فصل الدين عن السياسة، وكان رائد هذا الخط السيد الشهيد الأول (محمد باقر الصدر قدس سره) وقد أسمى هذا الخط بالمرجعية الصالحة، وقد تجلى ذلك التباين بين هذين الخطين أو المدرستين في المناهج والمواقف أكثر في عصر الشهيد الثاني (محمد محمد صادق الصدر قدس سره)، فأصبح ذلك الخط القديم ليس فقط منزويا ولا يقول بولاية الفقيه، بل أصبح أصحاب هذا الخط يشنّون الحملات والهجمات ضد المُصلحين ممَّن يقول بولاية الفقيه المُطلَقة ووقفوا ضدهم بقوّة حتى وصفهم السيد محمد صادق الصدر(قدس) بالصامتين كصمت القبور، وسمّاهم بالحوزة الساكتة إلى غيرها من الأوصاف.، وفي المقابل أصبح الخط الذي يقول بولاية الفقيه يمثّل الحوزة الناطقة … فمثل هؤلاء الساكتين اعتبروا أنَّ التكلم بالسياسة حرام ومخالف لنهج أهل البيت (عليهم السلام) بل نترك السياسة لأهلها ولا يحقّ التدخل بها مهما حصل من نتائج ولو كانت تلك النتائج تؤدي إلى هدم بيضة الإسلام كما يقال فالذي يدقّق بمواقفهم يراهم يدعون إلى فصل الدين عن السلطة أو السياسة..
والسؤال سيدنا الجليل هو: بعد احتلال العراق وسقوط النظام الإجرامي شاهدنا العَجَب العجاب وهو تدخّل تلك الحوزة (الصامتة أو الساكتة) بالشأن السياسي وبقوّة، فأصبحوا هم أهل الحلّ والعقد في جميع أمور البلد، وقد تدخّلوا بالصغيرة والكبيرة من شؤون الأمة ولم يقتصروا على الأمور الحسبية كما كانوا يعتقدون ويصرحون به،
فهل هذا يعني أنّها أصبحت ترفض الفكرة الكلاسيكية وتؤمن بالمرجعية الهادفة الصالحة، وأيّ من الحوزتين له التأثير الأكبر على المجتمع عموما والكوفة والنجف خصوصا، وماهي نسبة تفاعل المجتمع مع كل منهما ولمن ينقاد وما هو سبب تبعيته وانقياده لاحداهما دون الأخرى خاصة ونحن نشاهد التبعية الاجتماعية العددية الكبرى تكون للمرجعية الكلاسيكية؟
يرجى من سماحتكم بيان بعض الموارد التي تفيدنا في المقام زاد الله في علمكم وعملكم.
د. كاظم الموسوي
باحث اجتماعي
الجواب//
الحركة الإصلاحية بين الإيثار والانتهازية
بسمه تعالى: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بعد التوكل على العلي القدير أقول:
ما يُسمّى بالحوزة الساكتة والحوزة الناطقة أو ما يُسمّى بالحوزة الصادقة والحوزة الانتهازية الكاذبة أو ما يُسمّى بالحوزة الكلاسيكية والحوزة الحركية المتفاعلة الفاعلة أو ما يُسمّى بالحوزة الحسبية حوزة الولاية المالية الحسبية وحوزة الولاية العامة.. وغيرها من تسميات تصنف فيها الحوزة إلى صنفين، ومدى تأثيرها على المجتمع النجفي بل في المجتمع الكوفي العراقي وكل المجتمع العراقي وكل المجتمعات الإنسانية.. ومدى تأثّر المجتمع بها وانقياده لها واتّباعها.. وبالتأكيد سينصرف ذهن القارئ إلى النجف والكوفة لأنّها مورد السؤال ولأنّها أوّل وأهم مركز ديني وعلمي عبر التاريخ وستبقى مركز الاستقطاب إلى آخر الزمان..، ومن الواضح أنَّه لمركزية النجف العلمية والدينية والاجتماعية فإنَّ ما يقال فيها يصحّ ويصلح للتعميم إلى باقي الأماكن والمجتمعات..، فيرد في بالي العديد من الأمور أذكر بعضها في نقاط:
1– أن المصلحين من أنبياء وأئمة وأولياء صالحين على مَرّ التاريخ (إلا النادر جدا جدا) لا يتهيأ لهم التطبيق والمصداق الخارجي على أرض الواقع من سلطة و حكم و أوامر و نواهي نافذة و فاعلة بقوة دولة ومؤسساتها… وحتى النادر فهو كذلك لم يتحقّق له ذلك إلا في بُقعة محدَّدة من الأرض وفي فترة زمنية ليست كافية، إضافة إلى تزامن سلطانهم و دولتهم مع وجود الكثير من الأعداء و التحديات و الأخطار التي أخذت الكثير من الوقت و الجهد لمواجهتها، و لا يخفى عليكم الشاهد فيما تحقّق مثلا في عصر الأنبياء يوسف وسليمان عليهما السلام ودولة الحق و سلطة الشرع المقدس في عصر النبي المصطفى الخاتم (صلوات الله و سلامه عليه وعلى آله) و كذلك دولة و سلطة الحق في عصر أمير المؤمنين و الإمام الحسن (عليهما و آلهما الصلاة و السلام).
2– إذن فالمرجع و القائد المصلح عادة ما يكون وحيدا أو مستضعفا قليل الأتباع لا يتهيّأ له تأسيس و قيادة دولة وحكومة إلهية حقة، و هذا يستلزم أو يعني أنَّ المتصدّي والحاكم والسلطان عادة يكون من أهل الضلالة و الباطل، و هذا ما يُثبته ويؤكّده الواقع والتاريخ على طول الزمان … و هذا الكلام كما أشرنا هو بلحاظ المِصداق و التطبيق في الخارج على الأرض، فالقائد المُصلِح عادة لا تتهيأ له السلطة والحكم الفعلي لكي يطبّق و ينفّذ نظريته الإصلاحية بنفسه و بشخصه.
3– أمّا بلِحاظ النظرية والفكرة فإنَّ النظرية والمنهج النظري الإصلاحي دائما تكون له الغَلَبة و السَّطوة و العُلوّ ويمثّله ويشمله قانون (ظهر الحق أو الحق يعلو أو القول الثابت) و يكون الطرف المقابل في ذُلّ وخُنوع وخُسران ويمثّله ويشمله قانون (فبهت الذي كفر أو زهق الباطل).
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم : 27]… {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء : 81]… {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ : 49].
4– بعد أن اتَّضح المعنى السابق من وجود معسكرَيْن متصارعَيْن وتكون الغَلَبة الفكرية والنظرية دائما لمعسكر الخير والصلاح وتحت قانون ظهر الحق وزهق الباطل .. وتكون دائما أو غالبا الغَلَبة العسكرية والسلطوية لمعسكر الشر .. ويبقى الكلام عن نظرية المُصلِح وقواعد الإصلاح ونسبة تطبيقها على أرض الواقع من خلال نفس المصلح أو عن طريق غيره حتى من خصومه وأعدائه .. وهذا يستلزم في المقام الإشارة إلى حصة ثالثة و هي بلحاظ المصداق و التطبيق في الخارج و لكن ليس على يد المصلح نفسه و بالمباشرة منه بل على يد غيره من أعداء وخصوم وغيرهم .. وبهذا اللحاظ يقال أنَّه عادة ما تتحقَّق تطبيقات لنظرية المُصلِح ولكن بنِسَب مُتفاوِتة و أوقات مُتفاوِتة أو مترتِّبة ولاحقة.
5– من الواضح أنَّ كلّ حركة إصلاحية منذ خلافة أبينا آدم (عليه السلام) إلى وقت الظهور المقدس فإنَّ كلَّ الحركات الإصلاحية يكون لها مدخلية وتأثير و تأسيس و تهيئة لدولة العدل الإلهي الموعودة، وهذا لا يعني أنَّه لا توجد تطبيقات و آثار في عصر القائد المُصلِح و ما يرتبط به من زمان وما يلحقه.. و لتوضيح المعنى: مثلا إنَّ منهج الإمام الحسين (عليه السلام) في الثورة و التضحية التامة الكاملة الشاملة الكبرى كان له الدور الرئيس في الحفاظ على الإسلام و مبادئه وأركانه الأساسية، فلولا التضحية و الثورة الحسينية الكبرى لتمكَّن يزيد وكل من خلفه من زعماء الشر وطُغاته من أنْ يفعل و يعمل و يتمكَّن من طَمْس كل المعالم الإسلامية و تهديم كل أركان الدين و مبادئه، وهذا ليس بغريب و لا بمستبعَد حيث أنَّ معاوية قد عمل وعمد على طَمْس الدين بمخالفة العديد من المبادئ و الأحكام و الأركان الإسلامية فقد أباح الخمور شربا و بيعا و تجارة و أباح لبس الذهب و خالف النص القطعي بأنَّ الولد للفراش فادَّعى زيادًا و أباح بل أوجب سبَّ وشتْم و لعْن أمير المؤمنين (عليه السلام) و غيرها من الموبقات و الانتهاكات و القبائح و المنكَرات… هذا معاوية فما بالك في يزيد الذي كان مُعلِنا للمنكَرات و الفواحش و كانت أفعاله معلومة و مشاعة في المجتمع الإسلامي ..
6- فالثورة الحسينية أرغمت يزيد نفسه على ادّعاء الإسلام و التظاهر به و لولا ذلك لطُمِسَت معالم الإسلام إلى الأبد.. إضافةً لذلك فإنَّ التطبيق والتأثير الخارجي للزحف والتضحية الحسينية لم يتوقَّف إلى هذا الحدّ و الوقت بل استمرَّت إلى باقي العصور والخلفاء المتسلطين الذين تسلَّطوا بعد يزيد من أمويين و عباسيين و غيرهم. وننتقل إلى عصرنا الحاضر.. وليكن مثالنا السيد المعلم الأستاذ الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فإنَّ منهجه وسلوكه ونظريته الرسالية الأخلاقية الاجتماعية أرغمت الخطّ المقابل (المضادّ الفكري والخصم الديني المؤسَّسة الدينية الانتهازية) أنْ ينتهج ظاهراً نفس النهج والمنهج والسلوك الذي يدّعيه ويسير عليه المرجع القائد المُصلح ومؤسَّسته الإصلاحية، ويكون ذلك النفاق والانتهازية بتأمين ومبارَكة السلطة الحاكمة ودعمها بكافَّة الوسائل لتحقيق ذلك من أجل امتصاص نقمة المجتمع وتهدئته وتخديره بالدعم والترويج أو بصنع مرجعية تابعة للدولة يصبّ عملها ومنهجها وسيرتها في مصلحة السلطة الحاكمة وإدامة ظلمها وتسلطها.
7– و لتحليل الكلام السابق.. لنسأل أنفسنا: أين منهج الانزواء و التقوقع و الراحة والمُهادَنة و الانكفاء والولاية الحسبية المالية فقط و فقط.. من منهج صحيح صالح لولاية عامة وولاية فقيه نافعة مُصلِحة و تفاعلها مع المجتمع و حمل همومه و إيجاد الحلول و تحمل المسؤولية و تحمل تبعاتها من مُعاداة الأنظمة المستبدَّة المؤدِّية إلى التهديد و الترهيب و الاعتقال و الإعدام، فأين هذه من تلك؟؟!!
8– و لكن من مفارقات الزمان أنَّ ذاك المنهج الحوزوي الصامت الساكت يتحوَّل فجأة و بدون سابق إنذار وبدون أيّ مقدّمات ينقلب ويتحوّل إلى حوزة ناطقة عاملة متفاعلة مع المجتمع مهتمَّة لأموره حسب ظاهر الإعلام المرتزق المسيَّس؟؟ و لكن كيف ومتى حصل ويحصل ذلك؟ إنَّه في زمن الاحتلال المؤسِّس والداعِم والمبارِك لذلك النهج المستجَدّ و المستحدَث المقارِن للراحة و الترف والواجهة و السمعة و المديح.. فكيف حصل و يحصل مثل هذا الموقف النفاقي الماكر و ما هي عناصره وأساساته؟
9– باختصار أقول إنَّ كلام المُصلِح ومنهجه ونظريته دائما يكون لها السُّموّ والعُلوّ والمثالية والأحقّية والقبول الفكري عند الجميع حتى عند المستكبِرين و الفراعنة، فيكون إقرار هؤلاء الفراعنة و تسليمهم (بأحقّية المصلح وما صدر عنه) داخلاً تحت عنوان (فبهت الذي كفر) فما فعله و قدّمه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) من سلوك و منهج و تضحية جعل الجميع يقرّ ويعترف ويسلّم بصحّة ذلك و تماميّته و أرجحيّته على باقي المناهج و النظريات. إذن فالمجتمع ارتبط فكريا و نفسيا مع منهج ونظريات الصدر الأول وعندما توفّرت الظروف السهلة السلسة المُريحة للقطب الانتهازي الصامت الساكت الحوزوي وبدعم من الحكومة المتسلطة وقوى احتلال فإنَّ هذا الخط الانتهازي النفعي استغلّ الظروف فركب الموج فوظّف تضحيات المُصلِح الصدر الأول و منهجه لصالحه فأظهر سلوكا ظاهريا نفاقيا من أجل خداع المجتمع وجعله يصدّق أنَّ هذا الخط المرجعي الساكت يمثّل نفس الخط و المنهج الصدري الرسالي أو هو امتداد له.
10– وهنا أجد من الضرورة التنبيه إلى أنَّ هذه الانتهازية والمكر والخديعة الكبرى لم تكن من جانب واحد من الخطّ المؤسّسي الانتهازي الحوزوي بل أنا وأنت وكل المجتمع لنا الدور في التأسيس والتنظير لهذه الخديعة الكبرى والمكر الفاسد الضالّ فنتحمّل المسؤولية والتَّبِعة… فالمسؤولية مشترَكة بين الطرفين المرجعية الساكتة و المجتمع الذي رضي بالخديعة بل أسَّس لها وأوجد مقدّماتها وشروطها.
11– أعزائي إنَّ المجتمع العراقي الكوفي هو نفسه الذي كان في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، بمعنى أنَّ نفس القانون الاجتماعي الذي طبَّقه البعض على ذاك المجتمع ينطبق على هذا المجتمع و القانون هو (إنَّ القلوب معك و السيوف عليك) فذاك المجتمع قتل الإمام الحسين وهو يُقِرّ و يعترف أنَّه الحق و إمام الحقّ (عليه السلام).. فتجهَّز المجتمع و خرج للقتال و قاتل و قتل الإمام (عليه السلام) و هو يعرف أنَّه على حقّ و أنّه هو الحقّ، بل كان المجتمع يحاربه ويقتله و يذبحه (عليه السلام) و هو – أي المجتمع – يبكي عليه كما نقل لنا التاريخ الكثير من الشواهد بهذا المعنى… أما مجتمعنا (وأكثركم يذكر جيدا وكلكم يعلم ويتيقّن) كيف أنَّ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) كان يشكو من قلّة المقلّدين بالمقارنة مع مقلّدي الآخَرين،وكان يشكو من قلّة الموارد المالية بل انعدامها بالمقارنة مع ما يحصل عليه الآخرون ،وكان يشكو من قلّة الناصر حتى تخلّى عنه أقرب المقربين إليه.. حتى أنَّ المجتمع بعمومه و على رأسه و أشدّه الحوزة العلمية الانتهازية بزعمائها كانوا يوجِّهون مختلف التُّهَم والافتراءات على السيد الأستاذ المعلم الشهيد محمد باقر الصدر حتى أشاعوا عليه تُهمة العَمَالة للنظام الصدامي الظالم والعَمَالة لإسرائيل الصهيونية والمخابرات الأميركية..
12– وهذا يعني أنَّ السيوف و القلوب معاً كانت على وضدّ السيد محمد باقر الصدر وهذه أسوأ حالة اجتماعية تنبّأ بها الرسول الكريم (صلى الله عليه و آله و سلّم) وحذّر منها حيث أنَّ الأمة و المجتمع ترى المعروف منكراً والمنكر معروفًا و هذه أسوأ وأخطر حالات الانحراف والانقلاب الفكري.. حيث صار الكفر و الاحتلال صديقاً و محرِّرًا و ولياً و ناصراً و حامياً !!!
13-أستاذي الفاضل لا يخفى عليك أنَّ كلّ إنسان (أو مجتمع) عندما يرتكب جريمة أو معصية و يعلم و يتيقّن أنَّه على خطأ وأنَّ ما فعله يخالف منهجه وسيرته أو يخالف ما يدّعيه ويُظهره، فإنَّ هذا الإنسان (أو المجتمع) سيشعر بالندم على ما فعل أو أنَّه سيشعر بالألم النفسي والحرج ومن هنا يحاول التكفير عن ذنبه أو تحسين صورته وسلوكه أمام الآخرين أو أمام نفسه، ولرفع الألم النفسي فإنَّه يحاول بل بوسوسة الشيطان يجد لنفسه المبرّر والمسوِّغ لفعله و جنايته، و كما يُقال أنَّه يفلسِف عمله وما صدر منه أو يقلّل من خطورته و تأثيره أو غير ذلك من أمور.. و من هنا ظهرت ردود فعل كثيرة و متنوِّعة صدرت من أهل الكوفة الذين غدروا وقتلوا ونكلوا وسلبوا الحسين الإمام المعصوم (عليه السلام)..
14– و نفس الكلام يجري على أهل الكوفة هذا الزمان فإنَّهم لتبرير أو لمعالجة حالتهم النفسية أو لتحسين سُمعتهم وواجهاتهم أو لفلسفة عملهم أو للتقليل من خطورته وتأثيراته أو لفلسفة البديل أو لفلسفة التكفير عن الذنب فإنَّ المجتمع الكوفي المعاصر المتديّن السالك و العامل بنهج التقليد الذي لم يقلّد المرجع القائد المصلح أصلا أو قلّده لكن تخلّى عنه (و كلّ ذلك لأنَّ طريق المُصلِح صعب وفيه المَؤونة الكبيرة والمشقَّة الشديدة و التضحيات الكثيرة بالرغم من معرفتهم و تيقّنهم بأحقّية المُصلِح و منهجه لكنهم يجحدون) فهذا المجتمع ينافق و يفلسف جُبنه وخُنوعه بتقليد الخط الآخر المتمثِّل بالمرجع الساكت الصامت لأنَّ الطريق أسهل وأخفّ مَؤونة ولا مشقّة فيها.. لكن مع ذلك فإنَّه يبقى المرجع المُصلِح و منهجه هو القُدوة و المَثَل الأعلى و هذا ما يعتقده المجتمع و يعلم به المرجع الساكت الصامت، وعندما تتوفَّر الظروف لإظهار ما يرجع إلى منهج و نظريات المُصلِح ويكون إظهار ذلك خفيف المؤونة و كان في إظهاره الربح والمنفعة والواجهة والسمعة مع عدم أيّ مضرّة أو مشقّة فإنَّ المجتمع والمرجع الصامت كلاهما يتسارعان ويتسابقان و يدفع أحدهما الآخر نحو تطبيق ذاك المنهج ظاهراً و هذا ما شاهدناه ولمسناه و عِشناه في تصدّي الحوزة والمرجعية الساكتة الصامتة للتصدّي والعمل وكأنّها هي صاحبة الولاية العامة ونظرياتها الإصلاحية التي تخالف فكرها ومنهجها ومعتقدها الأصلي، بل فعلت ذلك من أجل محاكاة ومجاراة المجتمع وكسب المنافع المالية والسمعة والواجهة.. وكسب رِضا السلطة الفاسدة أو قوى محتلة كافرة…
15– و ممَّا سبق يمكن أنْ تقول و باختصار (أنَّ المرجع القائد الُمصلِح يكون قائداً للمجتمع بينما المرجع الساكت الصامت يكون مُنقادا للمجتمع وللهوى والنفس والسمعة والواجهة).. و ممَّا يدخل في التحليل السابق و يؤثّر فيه أنَّ المرجعية الصالحة المُصلِحة تكون مُتّصفة بنُكران الذات والإيثار وشعارها دائمًا وأبداً أنَّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة.. أمَّا المرجعية الأخرى ومؤسَّستها فتكون مُتّصفة بالنفاق والانتهازية وشعارها دائمًا و أبداً أنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة.. و هذا هو الثابت عبر العصور من كُبَراء الأمة وأغنيائها وذوي الطَّوْل والواجهات كأحبار اليهود وأبي سفيان ومعاوية ويزيد مرورا بطواغيت بني العباس حتى طواغيت هذه الأمّة وعلماء النفاق، ويبقى المكر والنفاق والانتهازية فيها حتى ظهور المعصوم (عليه السلام) وتحقيق دولة العدل الإلهي المباركة.
16– وعليه يمكن أنْ نستنتج أنَّ منهج وسلوك ونظرية المُصلِح طُبِّقَت على أرض الواقع بصورة نسبية و لكن ليس بصورة مباشرة من نفس المُصلِح بل بصورة غير مباشرة من المرجعية المقابلة.. و هذا هو المعنى الذي أردت أنْ أوصله إليك في الحصَّة الثالثة من أنَّ نظرية و منهج المُصلِح كثيرا ما يكون لها التطبيق في الخارج ولكن بصورة غير مباشرة.
17– أستاذي وأساتذتي الأعزاء هذا ما أتى في بالي و أرجو أن يكون فيه بعض الإشارات التي تصبُّ في جواب ما ذُكِر من استفهام، وأمّا الأحداث والوقائع وتفصيلها التي حدثت في الفترة التي ذكرتها فيمكن الرجوع فيها إلى من كتب عن الحوزة أو التوجُّهات والتيارات الحوزوية ودكتاتورية المؤسَّسة الدينية في تلك الفترة…
والحمد لله الأول والآخِر والظاهر والباطن وهو العزيز الحكيم .. وأسالكم الدعاء.
الصرخي الحسني
عشرة جمادي الأولى 1432 هـ